نقلا عن
دكتور / سمير محمود قديح
باحث في الشئون الامنية والاستراتيجية
لو أنك طرحت هذا السؤال على أية شريحة من البشر ، فى أية دولة فى العالم ،
لحصلت بسرعة على اول جواب يقفز إلى الأذهان ، وأول اسم يرتبط بالوجدان ،
عند الحديث عن عالم المخابرات ..
أية مخابرات ..
(جيمس بوند) ..
فذلك البريطانى ، الذى يحمل رقم 007 ، مع تصريح بالقتل ، ويرتكب كل خطايا
ومبوقات الدنيا ، فى سبيل خدمة التاج ، صار منذ الخمسينات وحتى الان ،
أشهر جاسوس تتداول اسمه الألسن وتربح منه السينما الملايين والملايين كل
عام ، وهو يواجه أصابع ذهبية ، وعيون ذهبية ، ومسدسات ذهبية ، دون جرام
واحد من الفضة ..
الكل يعرفه ..
ويحفظ اسمه عن ظهر قلب ..
ولكن القليلين فقط من يعرفون اسم مبتكره (ايان فليمنج) ..
والأقل جداً .. بل والندرة ، هم من يعلمون أن (فليمنج) نفسه كان جاسوس
مدهشاً ، ورجل مخابرات لا يشق له غبار ، ولا تفشل واحدة من خططه وأفكاره
المبتكرة قط ..
و (أيان فليمنج) هذا ولد لأبوين بالغى الثراء ، من أبناء الطبقة
الأرستقراطية الأنجليزية ، وقضى الشطر الأكبر من عمره كطالب مواظب ، انيق
الملبس والأسلوب ، إلا أنه اشتهر دائما بالنشاط الزائد ، والأنخراط فى كل
الأنشطة الممكنة ، من جماعات الخطابة إلى الكشافة البحرية ، كما أظهر
ميلاً ملحوظاً للمغامرة والمخاطرة ، وخاصة فى فترات المعسكرات الصيفية
والرحلات الخلوية ..
لكن كل هذا لم يشفع له فى النجاح أو التفوق إذا وأنه - و على رغم كل هذا
النشاط - كان يعانى كسلاً بالغاً كلما تعلق الأمر بأستذكار دروسه و آداء
واجباته ، حتى أنتهى به الأمر إلى الفصل من المدرسة الفخمة ، التى ألحقه
بها والده ، بسبب مغامراته التى تجاوزت كل الحدود المعقولة ..
ولأن والدته كانت أنجليزية عريقة ، من طراز لا يقبل الفشل ، فقد قررت أن
تلعب دور الأب والأم معاً ،بعد وفاه زوجها ، وأجبرت (آيان) على الألتحاق
بإحدى الكليات العسكرية ، التى قبلته بين صفوفها ، أحتراماً لذكرى والده ،
ولوساطة امه ، الذين يحتلون كلهم مكانة سياسية رفيعة ..
والتحق (فيلمنج) بالكلية العسكرية البريطانية ، إلا أن هذا كان آخر شئ
يناسب طبيعته ، إذا لم يلبث أن عاد إلى عبثه ومغامراته ، وتورط فى مشكلة
عاطفية مع زوجة قائد الكلية ، مما دفع هذا الأخير إلى فصله بلا رجعة ..
وهكذا استقر الحال بالشاب المغامر فى شركة السمسرة والأوراق المالية ،
التى تمتلكها أسرته والتى مازالت تحمل لقبها حى أيامنا هذه ، فى بورصة
الأوراق المالية فى لندن ..
كان هذا فى صيف 1939م ، عندما بلغ (فليمنج) 31 من عمره ، وحصل على منصبه الرفيع فى الشركة ..
والعجيب أن (فليمنج) قد حقق نجاحاً مدهشاً ، خلال فترة عمله القصيرة ،
ووضع بعض الافكار المبتكرة ، التى ضاعفت الأرباح مرتين ، قبل أن يمل هذا
العمل المكتبى ، ويقدم أستقالته إلى أمه ، التى جن جنونها ، وحاولت منعه
من هذا ن واقناعه بالعودة إلى الشركة ، مواصلةخطة زيادة الارباح ، إلا انه
فر من لندن كلها ، هربا من مواجهتها ، وراح يقضى بعض الوقت فى منزل تمتلكه
الأسرة فى ليفربول ..
والعجيب أن قراره هذا كان مدخله إلى عالم المخابرات ، الذى قدر له أن يضع عليه بصمته ، ويحفر فيه اسمه بحروف من ذهب ..
ففى ليفربول التقى (فيلمنج) بصديق قديم لأسرته ، وهو الدميرال (جون
جودفرى) ، الذى كان يشغل - فى تلك الفترة- منصب رئيس المخابرات البحرية
البريطانية ، والذى لفت الشاب انتباهه بنشاطه الجم وذكائه الواضح ،
وعقليته المتفتحه الإبداعية الخلاقة ..
ولأن (جودفرى) كان على ثقة - بحكم منصبه وخبراته - فى ان الحرب آتية بلا
ريب ، فقد وضع (فليمنج) فى رأسه كما يقولون ، وراح يدرس تصرفاته وأسلوبه ،
طوال فترة وجودهما معاص فى ليفربول ، ثم لم يلبث أن واجهه ذات صباح ،
قائلاً :
- (آيان) .... هل تعلم فيم أعمل بالضبط؟!
ابتسم الشاب أبتسامة خبيثة ، وهو يجيب :
- لا اعتقد ان هذا يخفى على أحد يا أدميرال .
بدا له (جودفرى) صلباً صارماً ، جامد الوجه والملامح كعادته ، وهو قول :
- هل ترغب فى العمل معى إذن ؟!
أجاب الشاب فى سرعة :
- من يمكن أن يرفض امراً كهذا؟!
وهكذا ، وبتلك البساطة ، صار طالب الكلية العسكرية المفصول ، وسمسارة البورصة السابق ، يحمل رتبة ضابط فى البحرية ..
ولقب رجل مخابرات بريطانى ..
وما أن أندلعت الحرب العالمية الثانية ، حتى تفجرت كل المواهب الخلاقة فى اعمال (آيان فليمنج) ..
وكل الأفكار المجنونة ..
فى البداية ، خُيل للأدميرال (جودفرى) انه قد أساء الاختيار ، ووقع على أرستقراطى مخبول ، لا تتفق افكاره قط مع الواقع والعقل ..
ولكنه أنتبه فجأة ، إلى أن (فليمنج) هذا رجل مخابرات عبقرى ، وانه ما خلق لعمل إلا لهذا المضمار بالذات ..
فكل أفكار (فليمنج) كانت تصدم سامعيها فى البداية ، ثم لا تلبث أن تجد صدى
فى عقولهم ، منها إلى قلوبهم ، وتقفز بعدها لتحتل مكانة لا مثيل لها ،فى
عالم الأبتكار والنجاح ..
ولعل أبرز هذه الأفكار كان الإذاعة الألمانية الموجهة ..
فطوال فترة الحرب ، كان الألمان يستمعون إلى إذاعة ألمانيا ، ناطقة
بالعامية ، تنقل إليهم أخبار قادتهم وجبهاتهم ، على نجو يوحى بان فريقاً
من جنرالات الجيش ، المعارضين للنازية هم من يبثها ، من مكان مجهول داخل
ألمانيا ، وتهاجم الحلفاء وقادتهم ، إلى حد الذى وصفت فيه رئيس الوزراء
البريطانى ( وينستون تشرشل) بأنه يهودى بدين مصاب بامراض ... ، وأشبه
بالخنزير المريض ..
وربما كا هذا الوصف وما يشبهه ، هو السبب فى كل ما تصوره الألمان عن تلك
الأذاعة المجهولة ن والسبب فى أرتباطهم بها بشدة ، دون ان يخطر ببال احدهم
، حتى قادتهم انفسهم ، أنها إذاعة بريطانية بحته ، يتم بثها من قلب لندن ،
تحت أشراف (فليمنج) نفسه الذى كان يدس السم فى العسل يومياً ، ويتسلل إلى
أعماق الروح المعنوية الألمانية ، لينسفها نسفاً ، من خلال قصص ملفقة عن
قادة ألمان وساستهم ، وعن الجنرال المسرف ، الذى أبتاع لصديقته معطفاً من
الفراء ، يكفى ثمنه لإطعام لواء كامل ، ولآخر الذى ترك المعركة على الجبهة
الروسية ، لينعم بالدفء فى البلقان ، تاركاً جنوده يغرقون فى الجليد حتى
آذنهم ، وأقدامهم تتجمد فى البرد .. و... و...
والطريف أن (فليمنج) قد تعرض للمساءلة بسبب وصفه للساسة البريطانيين ،
والذى يبدوا بذيئاًللغاية ، عندما يلقى بالعامية الألمانية ، إلا أنه دافع
عن نفسه بأنه لو لم يفعل هذا لما أستطاع جذب الألمان إلى سماع إذاعته ، أو
إقناعهم بكل ما يدسه لهم من اخبار ..
وانتهى التحقيق بحصول (آيان فليمنج) على مكافأة سخية ، وإطلاق يده فى نسج المزيد والمزيد من تلك الأفكار المجنونة ..
وهذه النقطة الأخيرة بالذات كانت أكبر مكافأة حصل عليها (فليمنج) فى حياته كلها ..
ان تطلق يده فى الأفكار و الأبتكارات ..
مهما بلغ جنونها ..